وحدة المادة والروح:
من الخصائص الفريدة للإسلام أنه لا يفصل بين المادة والروح، بل ينظر
إلى الحياة على أنها وحدة تشملهما معاً، فلا يحول بين الإنسان ومقتضيات
الحياة، بل يتولى تنظيم هذه المقتضيات؛ لا يقر الحرمان ولا يطلب تجنُّب
الحياة المادية، بل يرسم الطريق إلى رفعة الجانب الروحي من خلال تقوى
الله في النواحي المختلفة من حياة البشر، لا من خلال إنكار المطالب
الدنيوية، ويحكي عن عباد الله الصالحين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [البقرة: 201-202].
كما ينعى على أولئك الذين لا ينعمون بواسع فضل الله وما خلق من متاع
طيب فيقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ
قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون َ} [الأعراف: 32].
ولكنه في الوقت ذاته يطلب إليهم أن يكونوا في ذلك أمَّةً وسطاً: {يَابَنِي
ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبّ
ُ الْمُسْرِفِينَ } [الأعراف: 31].
وفي الحديث النبوي: (إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن
لأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه ) رواه البخاري.
فالإسلام على ذلك لا يقر الفصل بين المادية والروحانية في حياة الإنسان،
ولكن يؤلف بينهما حتى يتسنى للإنسان أن يمارس الحياة بكل طاقاته على
أسس صحيحة سليمة، ويعلمه أن الجانبين المادي والروحي متلازمان متلاصقان،
وأن تنقية الروح من الشوائب أمر ميسور إذا استخدمت المادة لصالح الإنسانية،
ولا يتم ذلك بالتقشف والزهد وقهر الغرائز الحيوية.
وكم قاست البشرية نتيجة سيطرة جانب واحد من الجانبين الروحي والمادي
في كثير من الأديان والمذاهب، فبعضها بالغ في تغليب عالم الروح وتجاهل
الناحية الدنيوية ونظر إليها على أنها وهْمُ وخيال خدّاع وشَرَكٌ يجب الفرار
منه، وبعضها بالغ في تغليب عالم المادة وتجاهل الجانب الروحي واصفاً
إياه بأنه مجرد وهم مصطنع وتلفيق خيالي، ولم تجن البشرية من هذا الاتجاه
أو ذاك إلا التعاسة والشقاء، بعد فقدان عوامل الأمن والرضى والاستقرار؛
وحتى في أيامنا هذه فإنه ما زال التوازن بين الجانبين مفقوداً.
يقول العالم الفرنسي الدكتور دي بروجبي Dr. De Brogbi إن الخطر الكامن
في المدنية المادية البحتة يمكن تلخيصه في أنه موجه إلى هذه المدنية نفسها.
هذا الخطر هو الاختلال وعدم التوازن المتوقع حدوثه إذا لم تجد الحياة الروحية
لها طريقاً إلى جانب المدنية المادية لتعيد إلى الحياة الإنسانية توازنها الذي تفتقر إليه .
لقد اعتمدت المسيحية على أحد الجانبين وأخطأت المدنية الحديثة في الجانب الآخر.
والإسلام يهدف إلى إيجاد توازن بين هذين الوجهين في الحياة، المادي والروحي.
إنه يقرر أن كل ما في هذا العالم مسخَّر للإنسان، ولكن الإنسان نفسه عبد الله،
وأن رسالته في الحياة هي أن ينفذ مشيئة الله، والإسلام فيه مدد روحي للإنسان،
كما أن فيه إرواء لحاجاته الدنيوية، ويدفع به دائماً إلى تنقية الروح، كما
يدفعه في نفس الوقت إلى تقويم وتنظيم حياته الدنيا ليقيم الحق ويهجر الظلم،
ويسلك سبيل الفضيلة ويتجنب الرجس والرذيلة.
وبذلك؛ فإن الطريق التي رسمها الإسلام هي الطريق الوسط المثلى.